بعد معاينة دقيقة حذرة، لملم الطبيبُ أشياءَه، نظر إلى وجهي بأسىً،ثم التفت إلى أخي الأكبر ، وهمس في أذنه كلمات غير مقتضبة ، سمعتُ منها شيئاً ، وغابت عن مسمعي أشياء.. استطعتُ التقاط آخر جملة تهدّجت بها شفتاه.. كان يتكلم بحسرة ظاهرة.. وكان أخي يقف ذاهلاً عن كل شيء، يلتمسُ كلماتٍ مطمئنةً من صديقه الطبيب، وينظرُ إليَّ بحنانٍ لم أشهد مثيلاً له... كنتُ أنقّلُ عينيَّ الكليلتين بينهما، منتظراً كلمة تنهي هذا الصراع المريرَ الطويلَ مع المرض والألم..
افترسَ الصمتُ جوَّ الغرفة.. الكآبةُ والخوف يعتصران أخي.. وأنا أشبه بخرقة بالية ملقاة في جوف السرير، لاأقوى حتى على الأنين... اعتصرَ الطبيب بكفيه كتفي أخي، وقفزت من بين شفتيه كلمات متوترة حادّة: "لافائدة ترجى.. تشجّع.. ساعاتٌ قليلة وينتهي كلُّ شيء." وقعت تلك الكلمات في سمعي المتعبِ بكل وضوح.. لست أدري لماذا كنت مُرهفَ السمع آنذاك.. لعلي عرفتُ بحدسي أن كلماتِ الطبيب الأخيرة هي النطق بالحكم النهائي غير القابل للاعتراض أو الطعن..
غرستُ عينيَّ في الجدار المقابل، ورحتُ أستعيد قرار الحكم النهائي كلمة كلمة.. لم أجد في داخلي رَغْبةً في البكاء، أو خوفاً من المصير العاجل المحتوم، فلقد قضيت سنواتِ عمري في صراع مع الفقر والقمع والأزمات المتتالية حتى سقطتُ أخيراً بين مخالب المرض.. لعلّي الآن فقدتُ الإحساس بالحزن والفرح معاً، ولم أعد أميّز بين الأمل واليأس، ورحتُ أنتظر قدوم ضيف لايرغب فيه أحد..
كان الطبيب يشدُّ أخي محاولاً إبعاده عن الغرفة، لعلّه كان يخشى عليه، وهو يرى دموعه السخيّة وانهياره وشحوبَه.. أفلَتَ أخي من بين يدي الطبيب.. اقبل نحوي يستهدي بغبش دموعه، وضع كفّاً باردة مرتجفة على رأسي، ومسح على شعري بليونة وضعف.. لم أرَ أخي في سنوات عمري القصيرة.. متهدَّماً، منهاراً، ذليلاً.. كما أراه الآن... أغمضتُ عيني، وأدرتُ وجهي كيلا تسحقني أكثر، ملامحُ الحزن الجليديِّ في عينيه...
لم أدر كم من الوقت مضى، وأخي ثابتٌ إلى جانبي، لايتحرّك، كجذع شجرة عتيقة.. كنتُ أسمع انفاسَ صدره تعلو وتهبط دون انتظام، واحسُّ بروحه تغمرني وتطوف حولي رفيقة وادعة خائفة.. دون انتظام، وأحسُّ بروحه تغمرني وتطوف حولي رفيقة وادعة خائفة.. ظلّت تطوقني وتدغدغ حواسّي المتلاشية شيئاً فشيئاً حتى سبحتُ في جوٍّ هيوليٍّ متأرجح.. ورحتُ أغوصُ في دهاليزَ متداخلةٍ لاحدود لها..
جدّفتُ عبر بحيراتٍ دافئة متلاحقة.. كل واحدة تفضي إلى الأخرى، ومياهٍ عميقة هادئة لها سعة المدى.. داخلني إحساس أنني أقف على تخوم مستنقع الموت.. وأنني أُطلُّ على العالم الآخر عبر كوّات واسعةٍ لاحصر لها.. تابعتُ السباحة في خضمِّ البحيراتِ الواسعة...
...